المقال الثالث: في وداع شاعر إميتك بطاطا؛ الحاج الحبيب رحمه الله.

هبت رياح الخريف في السنوات الأخيرة على دوحة الشعر فأسقطت أوراق جيل من حكماء أسايس، إنهم سلسلة جبلية من شعراء الحكمة والفضيلة يحمل كل واحد منهم شموخ أدرار ن درن، وصبر أدرار الكَست، وذاكرة أسيف نسوس، وخصب واحات طاطا وشموخ نخلها.. وها هو الحاج الحبيب كَو اميتك بطاطا يغادرنا اليوم مخلفا وراءها صفحات أسماره المفعمة بالإمتاع والمؤانسة.. ! وهو القائل يوما:

نْكين آيوالان لْبور والاح ئرافان

ئميك ن صّْبر كاسْنْزراي كولو لايامنخ

ئمي ن ئفري وّاكَرزامن؛ نك أتّْ ئوالان

 الحاج الحبيب مع الحاج علي بيضني وشعراء ذاك الجيل الذين عمروا القرن الماضي وولج أكثرهم عتبة هذا القرن وهو ابن الستين. (رحمهم الله جميعا) يتميزون بخصائص أذكر منها:

  • المزاوجة بين الخصائص الفنية للشعر، ومقصد التوجيه ونثر الحكم البليغة.
    وهذه نفحة غالبة على شعراء ذلك الجيل، يرجع ذلك لكونهم تلقّوا من عيون صافية؛ أولهما معين التربية الأسرية والكُتّاب وحضور مجالس الذكر التي يغلب عليها إيراد الحكم باللسان الأمازيغي؛ قبل أن تُستَبعد أو تضعف مهارة اللسان الأمازيغي لعوامل عدة.. مع التلقي من معين أسايس الذي يشكل مدرسة وفضاء للتسلية والتكوين والتوجيه وتربية الذوق السليم..

وثاني العاملين: أن هذه المزاوجة هي السمة الغالبة على شعر أسايس ذلك الوقت؛ فلكل موضوع حظه في النظم والمشاكسة والتصوير الفني، بالاستعارة والمجاز والقاموس الدلالي الأصيل الكاشف، فيجتمع الترميز في الصور الشعرية جمالا وأنسا، مع التوجيه التربوي إرشادا ونبلا.

يضاف لذلك عوامل أخرى منها:

صفاء الذهن، وجمال الطبيعة، واكتساب الخبرة بالحياة..

وهذا رابط لمقطع شعري للحاج الحبيب بقناة الشاعر البشير أزناكَ يلخص هذه المزاوجة الطريفة: “فديو نادر للشاعر الحاج الحبيب اميتك صاحب الحنجرة الدهبية في أداء باهر وفني لقصيدتين”:

https://www.youtube.com/watch?v=Gy0A9kBKKJ8

ومن حكم الحاج علي بيضني مصورا تعقيد وخلل الزواج والبناء الأسري لهذا العصر:

زونْد ئغ ئلّا يان غ تاكَانت ئفُّوغد ئفيس،

آوكان ئيكَا ليتيهال ن زّمان اد غ لّيخ

ئيغ َكَيس أوريكَي ربي سلامت؛ ئقاند أتّْ ئشّْ.. !

وقال منتقدا رغبة تعديد الزوجات بلا كفاءة وقدرة ووفاء:

تاموكَايت أغ ئحتاجا يان مناوت

أمّا تومغارين؛ تودا يات إصلحن.

وقال الحاج الحبيب مبرزا خسران هدر الزمان فيما لا ينفع:

ؤُسّان آيكَان ئمغدارن إغ أكن فّالانِ

إما لاحبابَ  ن فربي، وْر اكْن سارا فلنِ.

  • اعتبار الشعر والنظم بأسايس هواية وتوجيها لا حرفة.
    فعصر هؤلاء الكبار المؤسسين – رحم الله من مضى وبارك في من بقي- لم يكن شعراؤه وفرق الرقص به يتقاضون أجرا متعاقدا عليه، فلا يعد الأمر أن يكون هدية يُوشَّح بها صدر الشاعر أمام الجمهور من قبل أحد الأعيان؛ إن تم ذلك؛ إذ لا يتيسر دائما..

إنما محبة الشعر ورغبة المساجلة مع أعلامه تدفع للمشاركة فيه؛ لذا نجد هؤلاء يحرصون على إبراز حرفهم ومجالات كسبهم العيش بعون الله ولطفه الذي لا يكفون عن التذكير به. علُق مقدم أمسية فنية قائلا: “برئاسة الشاعر الحاج لحبيب” فأجاب الحاج الحبيب ببداهته المعهودة: ” نْكْ المودن كادكَيغ” أي: لست إلا مؤذنا.

واشتغل أغلبهم في الفلاحة والكسب والتجارة.. وأضاف لها الحاج الحبيب: الطب التقليدي كجبر الكسور، والكي وغيرها.

وقضية تحول الفن من الهواية إلى الحرفة ليس منقصة وعيبا؛ فأين سيكتسب الفنان قوت يومه.. إنما المشكلة أن يطغى هاجس المال على أصالة الموهبة وكفاءة النظم، وتصير مقومات العمل الشعري والفني وأعراف أسايس يتحكم فيها نجوم مزيفون استطاعوا فرض أمر واقع لكلام اختلت مقومات الشعر فيه.. وكثيرا ما سمعنا مصطلحا نقديا عند الجمهور حين يعلقون على شاعر بأنه: ” إسْكْر البلاصْتْنْس” أي حاز مقعده في أسايس؛ لكن عندما تنظر لمنتوجه ونظمه بعين المتتبع الناقد: تجده نظما افتقد أغلبه لمقومات النظم الأصيل، فطغت عليه عقدة الرّد والغلبة الآنية، فصار كالبَرَد التي يذوب قبل بلوغه الأرض؛ أما أن تظفر فيه بصور شعرية أو حكم بالغة فنادر، إن لم يغب فيه عنصر النظم وهو سلامة الوزن. وفي هذا يقول الشاعر علي شوهاد في قصيدته: تامغرا ووشن:

ئكّاتين دا ئتّمتات رّايس ئيدّر ؤُماركَ

أغيلاد دا ئتمتات ؤُماركَ ئدّر رّايس.

علق الحاج الحبيب على هذا الوضع قائلا:

أي أماركَ ن غاصّاد ؤور ئيطّيف لْقانون

ؤلا طّافن رّيسيبُّو، لكرّوصا آيرواس.

ونقد الشعراء لمنتوج أسايس والشعر الأمازيغي عموما خصت له قصائد نفيسة، منها قصيدة لعلي شوهاد، وعبد الكبير شوهاد، والهاشم آيت وحمان. أرجو أن يتيسر التعريف بها.

 كما أن التجربة والوعي تُكتسب من خلال العمل والأسفار والاحتكاك بالسوق وذوي الحرف والتجارب.. فتصقل شخصية الفنان وتجعله أدرى بواقع الناس وخبايا المجتمع.. ! فتأخذ الموهبة والصناعة الشعرية ذاك الواقع وتصوغه في قوالب شعرية وفنية مناسبة..

  • تكوين المواهب:
    لا يتوان هؤلاء في الأخذ بيد الشباب الذين آنسوا منه رشدا، وأحسوا فيهم رغبة ولوج أسايس وتصقيل موهبتهم.. فكان لهم فضل إبراز مواهب كبيرة أنارت سماء أسايس، ووشحت الشعر والخيال الأمازيغي بعبق الصور البلاغية، والحكم البليغة، والنقد المسدد. وجاء بعدهم من صار يمارس الإقصاء وقمع الأصوات المجرّبة والفتية مُموّها بالأهلية؛ ناسيا أنه لولا أسياده المتواضعون لما ولج ساحة أسايس، وأنه إنما نال أهلية مزيفة بعقدة النجومية الطاغية، وحسابات الصداقة والوساطة والتحكم.. وشارك الجمهور في هذا الوضع المنحرف.. فطاطا مثلا ضمت أصواتا بديعة من الشعراء المجيدين كُهولا وشبابا. لكن الساحة لا تقدم إلا شخصا واحدا على أنه شاعر طاطا؛ فأين مكانة أسايس وحرمته؟ وأين جمالية الاختلاف؟ وأين تشجيع المواهب وإغناء الساحة؟ وأين العناية بالثقافة الأمازيغية وإبراز مناضليها….؟
  • شهود على العصر:
    عاش الجيل الذي نتحدث عنه مرحلة صعبة في تاريخ المغرب والعالم، وهي احتلال المغرب والعالم الإسلامي، والحرب العالمية الثانية، والمسيرة الخضراء، وسنوات الرصاص، ووعورة العالم القروي الذي افتقد مقومات التنمية كالطرق والصحة والتعليم والكهرباء وغيرها.. مع التحلي بالعزيمة الصادقة في تدبير المعيش اليومي بالكسب والفلاحة والسفر للعمل والتجارة بالمدن، وصفاء الذهن لكونهم لم يتأثروا بالإعلام المرئي وثقافة الصور والمرئيات التي تبلد الحس وتميت الذاكرة.. ! هذه العوامل أكسبتهم ذاكرة قوية نالوا بها شرف “شاهد على العصر”، فتجدهم يمتازون بفن الحكي الكاشف للأحداث، وتوثق ذاكرتهم ما جرى نظمه من مساجلات، وللحاج الحبيب فيديوهات تؤكد هذا والأمر نفسه مع الحاج علي بيضني. فلإن قاد بعض الإعلاميين والهوات مبادرة توثيق جزء من ذاكرتهم؛ يبقى هذا البعد ضائعا في هذا الجيل، فهي خسارة كبيرة أن يموت هؤلاء وتموت معهم ذكراهم وذاكرتهم وربما أشعارهم كذلك. والمفارقة الغريبة أن من نصّب نفسه مناضلا في سبيل الثقافة الأمازيغية كانوا أول من أدار ظهره لهذه الكنوز، فيا لها من قطيعة ومأساة وسوء تقدير.. !

فضاء أسايس ذاكرة أمة، ومدرسة أجيال، وساحة أنس وإمتاع ومؤانسة، ومنبر التوجيه وتشكيل الوعي والانتماء الجمعي. لهذا ولغيره استحق أعلامه التعريف والاعتراف، وتوثيق ما تيسر من دُررهم وذكرياتهم قبل أن يطمسها النسيان وتجرفها العولمة وثقافة الصورة المبلدة للذاكرة والحس.

فالشكر والاعتراف بالجميل لمن حمل هذه الأمانة سعيا منه لتوثيق الذاكرة ورد الجميل؛ سواء بالكتابة والتأليف، أو باستثمار التقنية الحديثة. وأشير إلى صفحة واعدة بالفايس واليوتوب ل “اخراز محمد”:

https://web.facebook.com/MA.Anotherworld

صفحة ضمت تعريفا بأعلام أوشك الدهر أن يُنسيهم، فاللهم اغفر وارحم الحاج الحبيب وجميع حكماء النظم والتضحيات..

حسن أهضّار

حسن أهضّارAuthor posts

Avatar for حسن أهضّار

خريج التعليم العتيق، باحث في سلك الدكتوراه بكلية الشريعة بجامعة ابن زهر. مهتم بالشعر الأمازيغي، وبالفكر الإسلامي والفلسفي.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *