الدراسات الاستشراقية للشّعر الأمازيغي السوسي

  1. تمهيد:

لقد كان الاهتمام باللغة الامازيغية (بمختلف تعابيرها) من طرف الغربيين قديما بالمقارنة مع اهتمامهم بأدبها. فمنذ القرن الخامس عشر بدأ الرحالة والمبشرون والدبلوماسيون الغربيون بجمع بعض المعلومات عن هذه اللغة، وكان ذلك الاهتمام محدودا في جمع بعض الجمل الوظيفية وبعض الكلمات المتناثرة، وأحيانا بعض القواعد النحوية البسيطة ولا يتعداها إلى أكثر من ذلك. ولقد كان القصد من وراء ذلك تسهيل التواصل لتحقيق أغراضهم تجاريةً كانت أو دبلوماسية أو غير ذلك.

لم يتطوّر هذا الاهتمام كثيرا إلّا في القرن التاسع عشر حيث تجاوز الأمر جمع بعض الجمل والكلمات إلى جمع النصّوص الأدبية ونشرها، وكان معظم تلك الاعمال تنشر بفرنسا، حيث كان أول نص منشور على المشهور هو قصيدة “الصبي” التي نشرها  Jacques-Denis Delaporte[1]، وجاءت بعده منشورات ودراسات أخرى متنوعة.

غير أن هذه النصوص الأدبية وما صاحبها من تعليقات وملاحظات، لم يكن القصد من وراء نشرها ودراستها الاهتمام بالأدب كأدب وإنّما كان لذلك أسباب ومقاصد، فلقد كان من الأهمية الكبرى للمستعمِر أن يستوعب البنيات الثقافية للمجتمع المستعمَر ويدرس نفسيته وما يحرّك وجدانه من خلال هذه النصوص، ويجني من ذلك أيضا معرفة لغوية دقيقة تمكنه من التغلغل في المجتمع واختراقه[2] لتسهيل التوسع ولتنظيم الإدارة التي بواسطتها يتم له التحكم بأمره. وقد رأينا عند القبطان جيستينار [3]كمثال، مجموعة حوارات مفترضة في مجالات مختلفة، ككيفية تجنيد عنصر بربري، وكيفية التفاوض والمساومة وغير ذلك من الأغراض.

وأمّا ما يمكن اعتباره منشورات ودراسات أدبية محضة، فقد جاء متأخرا عن هذا الذي ذكرناه كله، وبدأ بالأساس مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مستفيدا مما تحقق من تطور في علوم اللسانيات.

وإذا اقتصرنا على الشعر السّوسي موضوع هذا العمل المتواضع، فإننا نعدّ الأعمال المنجزة بخصوصه على رؤوس الأصابع، وهي لا تخلو من نبرة الاستعلاء الغربي الذي تتسم به جلّ الدراسات الاستشراقية، والتي تفضي في الغالب بأصحابها إلى تبنّي استنتاجات واهية غير مبنية على أسس متينة. غير أن هذه الدراسات على عللها وقصورها، تُعتبر في غياب اهتمام المعنيين بالأمر كنزا مهمّا وحجر أساس لدراسات نقدية أوفت الشّعر الامازيغي حقّه أو حاولت ذلك.

ومن أشهر الدراسات الاستشراقية للأدب الأمازيغي تلك التي طرحها “هنري باسيه” Henri Basset  في كتابه المعنون ب ُEssai sur la littérature Berbère، والتي نرى فيها بعض

الجدية والتفاني في البحث، وسنورد بعض ملاحظاته واستنتاجاته كنموذج مع ايراد بعض التعاليق عليها ممّا نراه صائبا.

  1. ملاحظات “باسيه” حول الشعر الأمازيغي عامّة، والسوسي خاصّة:

لم يغفل هنري باسيه عن ذكر بعض ما يراه مميّزا للشعر الامازيغي، كذكره عراقته وضربه في القدم وكونه ممارسة جماعية تحظى بكثير من الاهتمام والتقدير، وأن الممارسة الشعرية عند البربر مازالت تحتفظ بذلك الدور الاجتماعي الذي تفتقده عند معظم ثقافات المعمور.

إلّا أنه لم يتوان أيضا عن ذكر أوجه القصور في هذا الفن وعند أهله، لدرجة التمادي أحيانا في القدح والاستعلاء الذي أشرنا إليه مسبقا.

وإذ نشاطره الرأي في بعض ملاحظاته خصوصا تلك المتعلّقة بوصف طبيعة هذا الفن، فإنّنا نخالفه في غير ذلك، حيث ظهر قصوره وقصور سابقيه عن إدراك كنه هذا الفن واستكشاف أسراره وتذوق حلاوته. وما حال بينه وبين ذلك إلّا خمس عقبات، أوّلها اتخاذه الشعر الفرنسي والغربي عامة نموذجا يُحتذى ومعيار يقاس به مقدار تطور كل فن، متجاهلا خصوصية اللغة والثقافة الأمازيغيتين. وثانيها محدودية معرفته اللغوية (التعابير الأمازيغية) التي كانت أساسا في معظم استنتاجاته المتعلقة بمضامين الأشعار المدروسة. ثم بعد ذلك يأتي حائل ثالث، حال بينه (وكذلك الامر بالنسبة لسابقية من المستشرقين) وبين استكشاف كنه الشعر الامازيغي بكل تعابيره، واستنباط خصائصه وأحكامه، وهو طريقة جمع النصوص من الحفّاظ حيث يغيب التحقيق والتدقيق، وهذا الأمر نراه كثيرا في كتابات المستشرقين، بل حتى عند غيرهم ممن أتوا بعدهم من أهل هذه الثقافة أنفسهم ما لم يكونوا شعراء أو لهم سبق معرفة وتذوق سليم لهذا الشعر، فنجد فيما جُمع أشعارا مبتورة ومشوهة لا يتوانى الحفاظ الذين يملون على الكتاب و الباحثين عن التصرف في أبياتها وأشطرها بما يحقق نفس المعنى الذي في أذهانهم على حساب اللفظ الأصلي، فيغيب بذلك الإيقاع والجرس وبلاغة القول.

هذا وإن شساعة الرقعة الجغرافية التي ينتمي إليها هذا الفن المدروس وتنوع التعابير اللسنية لكل رقعة (القبايل، الطوارق، الريف، الأطلس المتوسط، ثم سوس) عسّر أمر الإحاطة الشاملة بتفاصيل الشعر الأمازيغي شكلا ومضمونا. وإذا أضفنا إلى هذا كله ندرة النصوص المكتوبة والمحفوظة حفظا سليما، وصعوبة ترجمة النصوص الشعرية من اللغة الأصلية إلى لغات الباحثين المهتمين، اتضح لنا مدى وعورة المسلك ومنعة الهدف المنشود على من لم يعقد العزم ويملك العدّة الكافية ويفرغ لهذا الأمر مدّة طويلة، وذلك حال “ه. باسيه” وسيتضح هذا الامر من خلال استعراض ملاحظاته والتعليق عليها فيما يلي.

1.2. طبيعة الشعر الامازيغي:

يرى باسيه أن الشعر أسرع الأجناس الأدبية الامازيغية تجدّدا، إذ تتوالى النصوص باستمرار، ينسخ بعضها بعضا، ولا تحقّق بذلك تراكما مهمّا، فهذا التجدّد في طبيعته سلبي، إذ لا يتمّ عبره تحسين وتجويد الإبداع بقدر ما تُعاد الصيغ ذاتها والصُّور نفسها في كل مرّة لتعبّر عن مواضيع آنية في انتظار إلهام جديد يعوّض السابق ويمحوه. فالقصيدة الأمازيغية لا تُعمّر كثيرا إلّا نادرا، فلو كانت عن الحرب فلا تدوم أكثر من الجيل المعاصر لهذه الحرب، وإن كانت تنشد الغزل فإنّها تتلاشى وتُنسى في أقلّ من ذلك.

 ويرجع ذلك إلى الطبيعة الشفوية الطاغية على الثقافة الأمازيغية، ويرجع كذلك إلى الإرتجالية واللحظية التي تطبع هذا الشعر نفسه، وارتباطه بظروف معينة (المناسبات الاحتفالية في الغالب)، فلا تحتفظ الذاكرة إلّا بالشّعر الطقوسي الذي يتكرّر عبر السنين ممّا يسهّل حفظه، وإن رأى “باسيه” أن ما تبقى من هذا الأخير نفسه، ممّا احتفظت به الذاكرة، مبهم ومفرغ من معانيه الأصلية في أغلبه، إذ تشوهت بنيته وتغيرت ألفاظه الأصيلة.

ولا يمكن للمهتم بالشعر الامازيغي عامة والسّوسي خاصّة إلّا أن يوافق هذا الرأي لما نراه فيه من السّداد. فلا يخفى على المرء مقدار التلف الذي طال النصوص الشعرية الامازيغية (السوسية)، ومقدار الإهمال الذي طال ما بقي منها، وأثر التصرف الرديء في صيغها والتجاسر على مبانيها ومعانيها، والجهل بأصحابها حتى صار كلّ شعر قديم من التراث منسوبا لشاعر وحيد لا يكاد يُذكر غيره.

2.2. النّصّ الشعري:

ألحّ ه.باسيه غير ما مرّة في التذكير ببساطة الأفكار التي تتناولها الأشعار الأمازيغية، ومحدودية المشاعر التي تستطيع التعبير عنها، كما ألحّ على الإشارة إلى محدودية التصوير المجازي المعتمد وتعاقب استعمال نفس الرموز ونفس الصور عبر الزمن، وفي هذا إجحاف وحيف إذ لا حجة له يقدّمها على دعواه، وإنّما بنى رأيه على انطباع سطحي واستنتاج غير مبني على شمولية البحث وتحقيق النص وتدقيقه، وقد عرضنا لما حال بينه وبين ذلك فيما سبق.

والذي يلزم في هذا الأمر هو البحث المتخصّص، المبني على استقراء النصوص المحقَّقة الخاصة بكل تعبير من تعابير الأمازيغية، واعتماد معجم نقدي مستنبط من اللغة نفسها للتعبير أكثر عن خصوصية هذا الشعر وملامسة جماليته وبلاغته.

3.2. اللغة:

على مستوى اللغة أيضا في تراكيبها ونحوها يبدي “باسيه” ملاحظاته وانتقاداته للشعر الأمازيغي دون مراعاة الخصوصية التي تتميز بها كل لغة عن غيرها، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر باللغة الشعرية التي هي أخص من اللغة عامّة، فلها منطقها الخاص بها ولا يمكن الحكم عليها إلا بمراعاة ذلك واستيعابه.

وأهم ما ركز عليه “باسيه” في هذا المحور عدم مراعاة الجنس والعدد في الخطاب، ثم ما يراه تصريفا عشوائيا للأفعال دون مراعاة الأزمنة وطبيعة الفاعل. فلا يكاد الشعراء يتحدثون عن المحبوبة إلّا بصيغة المذكر، كما يتحدث الشاعر الواحد عن نفسه أو عن غيره المفرد بصيغة الجمع.

والحقيقة أن هذا الذي ذكره كعلّة ونقيصة، إنّما هو من صلب اللغة الشّعرية الأمازيغية، فمخاطبة المحبوبة بصيغة المذكّر أمر مألوف في هذا الفنّ ما لم تُذكر باسم علم، والحديث بصيغة الجمع عن المفرد أيضا أمر مقبول في الشعر، بل قد نقول مستحبّا في بعض المواضع حيث يعبر الشاعر مثلا عن حالة نفسية جماعية انطلاقا من ذاته أو من غيره[4]…ويستلزم ذلك كله تصريف الأفعال وفق هذه التغيرات وليس في الأمر موضع للعشوائية.

والذي يُستغرب منه هو كيف لباحث في قدر “باسيه” أن يغفل عن أهمية خصوصية اللغة كيفما كانت وخصوصا اللغة الشعرية، وهذا الأمر موجود حتى في نثر اللغة الفرنسية وكذلك العربية، بل في المخاطبات اليومية بهاتين اللغتين وربّما في لغات أخرى. فمخاطبة الغير بصيغة الجمع (vouvoiement) في الفرنسية وكذلك في العربية تقدير وتبجيل، وتأنيث المذكر في العربية تصغير وتحقير…

وأمّا ما ذكره عن إهمال أزمنة تصريف الأفعال فلا نرى له ردّا، إذ لم يورد على ذلك حجة ولا مثالا نستطيع أن نتبين به ادّعاءه.

4.2. الإيقاع والجرس:

لقد بينّا من خلال ما تطرقنا إليه أعلاه ضعف ملاحظات “باسيه” وقلّة زاده من المعرفة اللغوية الأمازيغية وبيّنّا قصوره عن إدراك كنه النصوص الشعرية واستنطاقها وما أفضى به إليه ذلك من استنتاجات واهية وأحكام مجحفة، لامسنا من خلالها تلك النبرة الاستعلائية التي أشرنا إليها من قبل.

وأمّا في هذا المحور فسنتطرق إلى الخصلة الثانية التي نراها تتردّد في الدراسات الاستشراقية للأدب الأمازيغي عامة، وهي المقارنة الغير عادلة والقياس المجحف.

 هنا أيضا زلّة منهجية لهذا الباحث إذ اعتمد أسلوب المقارنة، وميز بين درجات بدائية أو تطور شعر كل تعبير من تعابير الأمازيغية، متّكئا على الخصائص الفنية للشعر الغربي عامة والفرنسي خاصّة كمرجع يتسم بالكمال وكمعيار للقياس.

فيخلص بذلك إلى أن أكثر الأشعار بساطة وبدائية هي “إزلان” بالأطلس المتوسط، وحجّته صعوبة إدراك الإيقاع الذي يحكمها، أو غيابه المحتمل، ثم غياب سجع الصوائت[5](تكرار نفس حرف العلّة) (l’assonance)، وكلّ أنواع القوافي.

يلي هذا الشّعر من حيث درجة تطوّر الإيقاع، شعر أهل سوس (موطن الشعر بامتياز عند الامازيغ حسب ه.باسيه نفسه)، الذي يتّضح فيه الإيقاع أكثر وإن عسُر أمر تحديده بدقّة.

وبعده يأتي شعر الطوارق حيث تم تحديد العروض بدقة عالية، وحُدّدت أوزانه المشهورة في سبع صيغ مختلفة تحمل كل واحدة منها اسما خاصّا بها، بل إنها تعتمد إلى جانب ذلك نظام قافية بسيط.

ويأتي في قمّة تطور الإيقاع، شعر القبائل حيث تتضح أجزاء العروض أكثر من غيره ويحضر سجع الصوائت (تكرار حرف العلة) وحيث تحضر القافية بكلّ أنواعها، المتتابعة (rimes suivies) والمتقاطعة (rimes croisées) والمتعانقة (rimes embrassées).

لا يخفى على القارئ مقدار العبث الذي يعتري هذه الدراسة من خلال هذه الاستنتاجات المبنية على ملاحظات واهية واستقراءات جزئية، والتي تغيب فيها الموضوعية ويغيب فيها المنطق. وكأن “هنري باسيه” يرى أن درجة تطور أي شعر ومقدار جماليته يقاس بمدى تشبهه بالشعر الفرنسي أو الغربي عموما، متجاهلا كل الاختلافات الممكنة.

وإذا التمسنا ل ه.باسيه عذرا في مخرجات تحليله للمضامين، باعتبار ندرة المكتوب والتصرف الرديء في المحفوظ وسوء الترجمة، فإننا نعدم له عذرا في مخرجات الدراسة العروضية التي بناها على المقارنة الغير عادلة التي سبقت الإشارة إليها، إذ أن خصوصية البنية اللسانية للأمازيغية تفرض مقاربة خاصة بها، وكذلك الأمر لضوابط العروض المبنية عليها . وسيأتي تفصيل هذا الأمر من خلال محوري الدراسة المقطعية وضوابط العروض.

 إحالات ……………………………………………………………………..

[1]« Littératures berbère, des voix, des lettres », Paulette Galand-Pernet, p12 à 13.

[2]«Littératures berbère, des voix, des lettres », Paulette Galand-Pernet, p15,16.

[3] « Manuel de Berbère Marocain (dialecte Chleuh) », Léopold Justinard.

[4] مثال ذلك قول الشاعر علي شوهاد في قصيدة “ڭمرغ لّوز” ص 88 من ديوان “أغبالو”: أنيكّ إڭمرن لّوز أسيغ تاوّونت….. أور نخالض إمرزيڭ أولا تيميمت”، فالبيت الأول جاء بصيغة المفرد متحدثا عن نفسه، والثاني يبين فيه حاله بصيغة الجمع للحديث عن نفسه وعمّن هو في مثل حاله.

[5] اعتمدنا سجع الصوائت كمقابل لكلمة «assonance» الفرنسية، لأن كلمة السجع وحدها تشمل الصوائت والصوامت معا.

داود السوسيAuthor posts

Avatar for داود السوسي

شاعر وباحث في الشعر الأمازيغي. _ شارك في الديوان الثلاثي "تاجا ن ئكَزار" ثم الديوان الجماعي "أوال ئدران". _ صدر له كتاب "أسقّول: في الشعر الأمازيغي ب سوس وعروضه". _ كتب مجموعة من القصائد لبعض الفنانين والمجموعات الفنية، منهم الفنان حسن الوردي، مجموعة ئزماون، واخرون.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *