نظرات على قصيدة”ئخف ئنو يوداييك غ ئلولوين”

1

نظرات على قصيدة "ئخْفينو يُوداييك غِ ئلُولُّويْنْ" للشاعر محمد الدمسيري رحمه الله.

تابعت كثيرا من أعمال محمد الدمسيري رحمه الله وأنا صغير، وذلك أن أخي محمد كان مغرما به فتسرب إلي صداه قبل الانتقال والاستقرار بمدرسة أرشاش ورفع شعار:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى … فصادف قلبا خاليا فتمكنا

وللدمسيري في تاريخ الشعر والفن الأمازيغي مركزيته ومكانته؛ فبالإضافة لكونه رسم نموذجه الفني الفريد في نسج القصيدة والعناية بإلقاء الكلمات الصادعة القوية قبل الإنشاد بالآلآت (أماوال)، وخصوصية صوته المبحوح، وتوجيهاته للجمهور لكونه احتل موقعا كبيرا في خشبة المسرح بإحياء السهرات؛ بالإضافة لذلك فله موقعه النضالي على حقوق المستضعفين، وفضحه للفساد والطغيان الذي تمارسه زبانية البصري آنذاك. وقصيدتاه: ” أكَرن/ الدقيق” و ” رْزْمغد إوُولي” وغيرهما خير شاهد. ونسجل هنا أن للجمهور دوره في التضامن والنصرة عكس ما يقع الآن، فمن صفق للمناضل اليوم هو من سيشمت به غدا ويكون أول من ينساه..
إذن للدمسري فضله وموقعه في ذاكرتنا؛ إلا أن ما أعاد إلي ذكره، وفرض علي تجديد الترحم عليه والتعريف والاعتراف به هو صنيع شاب واعد اسمه محمد اخراز من منطقة بني يعقوب طاطا، شاب له ذاكرة وأرشيف من كنوز أسايس والشعر الأمازيغي عموما، ورسم مشروع التعريف بكبار أعلام أسايس برسم صورة لمحطات حياتهم، وبعض أشعارهم.
واختار إنشاد قصيدة “إخفينو للدمسيري” فزادها إنشاده وإلقاؤه الفريد جمالا. 
الفيديو من صفحة محمد أخراز على منصة الفايسبوك

وفي قناته على اليوتوب:

والقصيدة أشبه بنفث لوعات الفؤاد ساعة السَّحر، لوعات ساعة الخلوة الصادقة لله اللطيف الوهاب.
قصيدة عبارة عن مِرآة نظر فيها الشاعر لذاته، لحياته، لأسراره، لجيله، لدنياه، لطبيعة النفس البشرية؛ ففضح غرورها، وحذر من كبريائها، وذكّر بمصيرها، قصيدة ركل فيها الشاعر الملهيات واللامبالاة ركلا، وصفع فيها الطمع صفعا، والتجأ فيها للباري الغني العزيز بمذلة الافتقار والتعلق برحمة العزيز الغفار، وتبرأ من تلبيس إبليس بطائفة اقتحمت خصوصيات الباري فشرعت توزع الرحمة والهداية والنجاة على خلقه غرورا وانحرافا.. أكتفي بقوله:

” أور دركاح آدنيح يان أوفاحت
أولا أداس نفك، أولا أسنكس
الرحمت رب آدارن كولو لانت…
أبنادم توب إسان ماك إخلقن …
يايحوبان ربي ماغ فيموسلمن
أدكين إضوضان إيفاسن مون
أوريش كرا آضيل إيش يان إفرنس..”

قصيدة “إخفينو” أشبه بنص ابن طفيل الموسوم ب “حي بن يقظان” فهي ذاك النص الذي يشبهك، أو ترجو أن يشبهك وتكون أنت صاحبه، نص كفاك مؤلفه صياغته نيابة عنك؛ ليندرج وفق ذلك في المقولة التي أحب التذكير بها لعلي عزت حين قال: “إن الشعراء هم جهاز الحس في الجنس البشري، ومن مخاوفهم وشكوكهم نستطيع أن نحكم بأن العالم لا يسير في طريق الإنسانية، وإنما في طريق اغتراب الإنسان واستلاب إنسانيته.” الإسلام بين الشرق والغرب.
فمن سمات الفن الأصيل أنه روح مشتركة، ولوعات صادقة، وزفرات ثورية مزعجة، وخيال متموّج يمنح العمل بعده الفني الجمالي.. قصيدة إخفينو يغلب عليها الجنس الأدبي المعروف ب “الحِكم” أو شعر المواعظ، وتتأرجح بين الشعر والنظم، إذ لا يترق لمستوى الشعر إلا على يد الكبار، وقد تكفل الشاعر الناقد داود السوسي في إبداء مقارنة بين النظم والشعر في كتابه: ” أسقول في الشعر الأمازيغي بسوس وعروضه”.
وفي هذا السياق أبدي مقارنة – في هذا الاعتبار- بين القصائد التالية:
قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء ووصف غروب العمران بالأندلس حين قال:
لكل شيء إذا ما تم نقصان … فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان
وقصيدة أبي الفتح البستي:

“زيادة المرء في دنياه نقصان … وربحه غير محض الخير خسران”
والثالثة قصيدة: “إخفينو” للدمسيري، وأترجم مطلعها ب:
” أقلعي يا نفسُ عن التجوال
قد غاب من أَنِستُه من حالي”
وتشترك هذه النماذج الثلاثة في طبيعة الموضوع؛ وهو رسم لوحة فنية لأحداث الحياة وتقلبات الدهر ومشاعر الغربة والاغتراب، والشعور بالأسى والسأم. مع استصغار الدنيا ولذاتها الوهمية، ولا يصدر هذا النوع إلا عن من أبلته التجارب، وأضنته الحوادث، وصقلته المواقف، وامتلك خيالا بارعا، وقلبا رقيقا، وشعورا راقيا، وحسا مرهفا، وتعبيرا ساحرا. وقد تراجع هذا النوع من الأدب في عصرنا. وأحسن من وجدته قد جدد فيه باقتدار هو الشاعر الناقد عبد الرحمن واد الرحمة؛ ومظان تجديده فيما يلي:
ترقى به من الأسلوب الوصفي إلى التصوير الفني، ومن التصريح للتلميح، ومن النظم للشعر،
كما توجه به للعروج في مقامات التزكية والافتقار لله سبحانه بلغة ولمسات شعرية فنية عالية.
ومن نماذج قصائده “تيليلا ن ربي”/ لطف الله، وهي قصيدة توثق زمن كورونا وهولها وصناعة الخوف فيها؛ وغنتها مجموعته طاطا مارك:

وقصيدته: “نكَا رْجانو غربي” غناء الفنان الأصيل: حسن الوردي:

وتظافر متن القصيدة مع جمالية اللحن والعزف الشجي لقصيدتي عبد الرحمن على الرقي بهما في مستوى فني عال فريد.
طريقة إنشاد اخراز محمد قصيدة الدمسيري مبادرة حسنة يشكر عليها؛ لأنها سبيل للتعريف بكنوز تراثنا وكلماته الذهبية، وسبيل لإقامة اعوجاج اللسان الأمازيغي، ورِفد الخيال والذوق بالأسلوب السلس السليم، ومن ثمرات وأمارات ذلك أن جيوش تيك توك تلقوا قصيدته فشرعوا يقطعونها إربا. فلإن كان في ذلك خطأ أخلاقي تجلى في الاستحواذ على منتوج الغير وإزالة اسمه؛ ففيه أمارة خير وهي الاحتفاء بالشعر الأمازيغي الأصيل.
وأترك للقارئ فرصة الإصغاء للقصيدة وتأملها بقلبه وخياله، وأعتذر له عن عدم تقديم وصف تعريفي لأبياتها. فللقارئ ذوقه وقدرته وكفاءته.

حسن أهضار

حسن أهضّارAuthor posts

Avatar for حسن أهضّار

خريج التعليم العتيق، باحث في سلك الدكتوراه بكلية الشريعة بجامعة ابن زهر. مهتم بالشعر الأمازيغي، وبالفكر الإسلامي والفلسفي.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *